الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول (نسخة منقحة)
.الركن الرابع: الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ: (وَ) الرَّابِعُ الْإِيمَانُ (بِرُسُلِهِ) وَهُمْ كُلُّ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَأُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ، أَمَّا مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّبْلِيغِ فَهُوَ نَبِيٌّ فَقَطْ وَلَيْسَ بِرَسُولٍ، فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَا كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولٌ.(الْهُدَاةُ) جَمْعُ هَادٍ وَالْمُرَادُ بِهِ: هِدَايَةُ الدَّعْوَةِ وَالدَّلَالَةِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى سَبِيلِ الْهُدَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرَّعْدِ: 7]، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشُّورَى: 52، 53].وَأَمَّا هِدَايَةُ التَّوْفِيقِ وَالتَّسْدِيدِ وَالتَّثْبِيتِ فَلَيْسَتْ إِلَّا بِيَدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ وَمُصَرِّفُ الْأُمُورِ، لَيْسَ لِمَلَكٍ مقرب ولا لنبي مُرْسَلٍ تَصْرِيفٌ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُمَا؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [الْبَقَرَةِ: 272]، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الْقَصَصِ: 56].وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُتَلَازِمٌ، مَنْ كَفَرَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِجَمِيعِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الْبَقَرَةِ: 285]، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النِّسَاءِ: 150-152]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النِّسَاءِ: 136]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الْبَقَرَةِ: 91]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الصَّفِّ: 7، 6]، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 81، 82].وَمَعْنَى الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ هُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْكُفْرُ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ، وَأَنَّ جَمِيعَهُمْ صَادِقُونَ مُصَدِّقُونَ بَارُّونَ رَاشِدُونَ كِرَامٌ بَرَرَةٌ أَتْقِيَاءُ أُمَنَاءُ هُدَاةٌ مُهْتَدُونَ، وَبِالْبَرَاهِينِ الظَّاهِرَةِ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ مِنْ رَبِّهِمْ مُؤَيِّدُونَ، وَأَنَّهُمْ بَلَّغُوا جَمِيعَ مَا أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ، لَمْ يَكْتُمُوا مِنْهُ حَرْفًا وَلَمْ يُغَيِّرُوهُ وَلَمْ يَزِيدُوا فِيهِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ حَرْفًا وَلَمْ يَنْقُصُوهُ، فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.وَأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ وَالْهُدَى الْمُسْتَبِينِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَاتَّخَذَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلِيلًا، وَكَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَرَفَعَ إِدْرِيسَ مَكَانًا عَلِيًّا، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَ بَعْضَهُمْ على بعض ورفع بعضهم عَلَى بَعْضٍ دَرَجَاتٍ.وَقَدِ اتَّفَقَتْ دَعْوَتُهُمْ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ فِي أَصْلِ الدِّينِ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، بِإِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَنَفْيُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ أَوْ يُنَافِي كَمَالَهُ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي تَقْرِيرِ تَوْحِيدِ الطَّلَبِ وَالْقَصْدِ. وَأَمَّا فُرُوعُ الشَّرَائِعِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَقَدْ تَخْتَلِفُ فَيَفْرِضُ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا لَا يَفْرِضُ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَيُخَفِّفُ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا شَدَّدَ عَلَى أُولَئِكَ، وَيُحَرِّمُ عَلَى أُمَّةٍ مَا يُحِلُّ لِلْأُخْرَى، وَبِالْعَكْسِ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وَغَايَةٍ مَحْمُودَةٍ قَضَاهَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ؛ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهُمْ آدَمَ وَنُوحًا وَإِدْرِيسَ وَهُودًا وَصَالِحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَيُوسُفَ وَلُوطًا وَشُعَيْبًا وَيُونُسَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَإِلْيَاسَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ، وَذَكَرَ الْأَسْبَاطَ جُمْلَةً، وَعِيسَى وَمُحَمَّدًا، وَقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَنْبَائِهِمْ وَنَبَّأَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَعِبْرَةٌ وَمَوْعِظَةٌ، إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا ثُمَّ قَالَ: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النِّسَاءِ: 162]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ} [غَافِرٍ: 78]، فَنُؤْمِنُ بِجَمِيعِهِمْ تَفْصِيلًا فِيمَا فَصَّلَ، وَإِجْمَالًا فِيمَا أَجْمَلَ..أول رسل الله نوح وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم: (أَوَّلُهُمْ) يَعْنِي: أَوَّلَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ (نُوحٌ بِلَا شَكٍّ) وَهُوَ نُوحُ بْنُ لَامَكَ بْنِ مَتُّوشَلَخَ بْنِ أَخْنُوخَ بْنِ يَرْدَ بْنِ مَهْلَايِيلَ بْنِ قَايِنَ بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيثِ بْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ الرُّسُلِ وَالنَّبِيِّينَ بَعْدَ الِاخْتِلَافِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النِّسَاءِ: 163]، لِأَنَّ أُمَّتَهُ أَوَّلُ مَنِ اخْتَلَفَ وَغَيَّرَ وَبَدَّلَ وَكَذَّبَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غَافِرٍ: 5]، وَإِلَّا فَآدَمُ قَبْلَهُ كَانَ نَبِيًّا رَسُولًا، وَكَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى دِينِهِ وَدِينِ وَصِيَّةِ شِيثٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الْبَقَرَةِ: 213]، الْآيَةَ، قَالُوا: كَانَ بَيْنَ نُوحٍ وَآدَمَ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ، فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ (كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَهُمْ) أَيْ لِلرُّسُلِ (قَدْ خَتَمَا) فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الْأَحْزَابِ: 40]، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْمَتْنِ. .خَمْسَةٌ مِنْهُمْ أولو العزم: (وَخَمْسَةٌ مِنْهُمْ) أَيْ: مِنَ الرُّسُلِ (أُولُو) أَيْ: أَصْحَابِ (الْعَزْمِ) يَعْنِي: الْجَزْمَ وَالْجِدَّ وَالصَّبْرَ وَكَمَالَ الْعَقْلِ، وَلَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ رَسُولٍ إِلَّا وَهَذِهِ الصِّفَاتُ فِيهِ مُجْتَمِعَةٌ، غَيْرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةَ أَصْحَابُ الشَّرَائِعِ الْمَشْهُورَةِ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِيهِمْ أَكْمَلَ وَأَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ لِذَا خُصُّوا بِالذِّكْرِ (فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ) يَعْنِي: قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الْأَحْزَابِ: 7]، فَذَكَرَ تَعَالَى أَخْذَهُ الْمِيثَاقَ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ جُمْلَةً، وَنَصَّ مِنْهُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ: مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ خَاتَمُهُمْ، وَنُوحٍ وَهُوَ فَاتِحُهُمْ، وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَهُمْ بَيْنَهُمَا (وَ) كَذَا ذَكَرَهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ فِي سُورَةِ (الشُّورَى) إِذْ يَقُولُ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشُّورَى: 13].وَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ هُمُ الَّذِينَ يَتَرَاجَعُونَ الشَّفَاعَةَ بَعْدَ أَبِيهِمْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: (أَنَا لَهَا) كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الْأَحْزَابِ: 7]، الْآيَةَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْتُ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ فِي الْخَلْقِ، وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ، فَبَدَأَ بِي قَبْلَهُمْ» وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَيُرْوَى مُرْسَلًا وَمَوْقُوفًا عَلَى قَتَادَةَ، وَلِلْبَزَّارِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ قَالَ: «خِيَارُ وَلَدِ آدَمَ خَمْسَةٌ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَخَيْرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ أُولِي الْعَزْمِ هُمْ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمَنْ وَافَقَهُمَا وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمُ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالْجِهَادِ وَأَظْهَرُوا الْمُكَاشَفَةَ مَعَ أَعْدَاءِ الدِّينِ، وَقِيلَ: هُمْ سِتَّةٌ: نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَلُوطٌ وَشُعَيْبٌ وَمُوسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ عَلَى النَّسَقِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهُودٍ وَالشُّعَرَاءِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ سِتَّةٌ: نُوحٌ صَبَرَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ وَإِبْرَاهِيمُ صَبَرَ على النار وإسحاق صَبَرَ عَلَى الذَّبْحِ وَيَعْقُوبُ صَبَرَ عَلَى فَقْدِ وَلَدِهِ وَذَهَابِ بَصَرِهِ وَيُوسُفُ صَبَرَ عَلَى الْبِئْرِ وَالسِّجْنِ وَأَيُّوبُ صَبَرَ عَلَى الضُّرِّ.قُلْتُ: وَقَوْلُهُ: إِسْحَاقُ صَبَرَ عَلَى الذَّبْحِ هُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ أَوْ مَرْدُودٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الذَّبِيحُ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كما في سورتي الصَّافَّاتِ وَهُودٍ.وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كُلُّ الرُّسُلِ كَانُوا أُولِي عَزْمٍ، لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا كَانَ ذا عزم وجزم وَرَأْيٍ وَكَمَالِ عَقْلٍ، وَإِنَّمَا أُدْخِلَتْ مِنْ لِلتَّجْنِيسِ لَا لِلتَّبْعِيضِ كَمَا يُقَالُ: اشْتَرَيْتُ أَكْسِيَةً مِنَ الْخَزِّ وَأَرْدِيَةً مِنَ الْبَزِّ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُمْ نُجَبَاءُ الرُّسُلِ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِهِمْ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الْأَنْعَامِ: 90].وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدِهِ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ظَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا ثُمَّ طَوَاهُ ثُمَّ ظَلَّ صَائِمًا ثُمَّ طَوَاهُ ثُمَّ ظَلَّ صَائِمًا ثُمَّ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ إِنَّ الدُّنْيَا لَا تَنْبَغِي لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ. يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى مَكْرُوهِهَا وَالصَّبْرِ عَلَى مَحْبُوبِهَا، ثُمَّ لَمْ يَرْضَ مِنِّي أَنْ يُكَلِّفَنِي مَا كَلَّفَهُمْ فَقَالَ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الْأَحْقَافِ: 35]، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَصْبِرَنَّ كَمَا صَبَرُوا جُهْدِي، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ».
|